محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللي الملقب بالعزيز أو عزيز مصر هو مؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر ما بين عامي 1805 إلى 1848 ويشيع وصفه بأنه مؤسس مصر الحديثة وهي مقولة كان هو نفسه أول من روج لها واستمرت بعده بشكل منظم وملفت استطاع أن يعتلي عرش مصر عام 1805 بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون واليًا عليها بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين

خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكليّة ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضد الوهابيين وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة كما وسع دولته جنوبًا بضمه للسودان وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول وكاد يسقط الدولة العثمانية لولا تعارض ذلك مع مصالح الدول الغربية التي أوقفت محمد علي وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها

خلال فترة حكم محمد علي، استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة إلا أن حالتها تلك لم تستمر بسبب ضعف خلفائه وتفريطهم في ما حققه من مكاسب بالتدريج إلى أن سقطت دولته في 18 يونيو سنة 1953 م بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر

نشأته وقدومه إلى مصر

ولد في مدينة قولة التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769 لأسرة ألبانية كان أبوه إبراهيم آغا رئيس الحرس المنوط بخفارة الطريق ببلده وقيل أن أباه كان تاجر تبغ كان لوالده سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم سواه وقد مات عنه أبوه وهو صغير السن ثم لم تلبث أمه أن ماتت فصار يتيم الأبوين وهو في الرابعة عشرة من عمره فكفله عمه طوسون الذي مات أيضًا فكفله حاكم قولة وصديق والده الشوربجي إسماعيل الذي أدرجه في سلك الجندية فأبدى شجاعة وحسن نظر فقربه الحاكم وزوجه من امرأة غنية وجميلة تدعى أمينة هانم كانت بمثابة طالع السعد عليه وأنجبت له إبراهيم وطوسون وإسماعيل ومن الإناث أنجبت له ابنتين وحين قررت الدولة العثمانية إرسال جيش إلى مصر لانتزاعها من أيدي الفرنسيين كان هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية والتي كان قوامها ثلاثمائة جندي وكان رئيس الكتيبة هو ابن حاكم قولة الذي لم تكد تصل كتيبته ميناء أبو قير في مصر في ربيع عام 1801 حتى قرر أن يعود إلى بلده فأصبح هو قائد الكتيبة ووفقًا لكثير ممن عاصروه لم يكن يجيد سوى اللغة الألبانية وإن كان قادرًا على التحدث بالتركية

بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر وانسحابها عام 1801 تحت ضغط الهجوم الإنجليزي على الثغور المصرية الذي تواكب مع الزحف العثماني على بلاد الشام إضافة إلى اضطراب الأوضاع في أوروبا في ذلك الوقت شجع ذلك المماليك على العودة إلى ساحة الأحداث في مصر إلا أنهم انقسموا إلى فريقين أحدهما إلى جانب القوات العثمانية العائدة لمصر بقيادة إبراهيم بك الكبير والآخر إلى جانب الإنجليز بقيادة محمد بك الألفي ولم يمض وقت طويل حتى انسحب الإنجليز من مصر وفق معاهدة أميان أفضى ذلك إلى فترة من الفوضى نتيجة الصراع بين العثمانيين الراغبين في أن يكون لهم سلطة فعلية لا شكلية على مصر وعدم العودة للحالة التي كان عليها حكم مصر في أيدي المماليك وبين المماليك الذين رأوا في ذلك سلبًا لحق أصيل من حقوقهم شمل ذلك الصراع مجموعة من المؤامرات والاغتيالات في صفوف الطرفين راح ضحيتها أكثر من والٍ من الولاة العثمانيين خلال هذه الفترة من الفوضى استخدم محمد علي قواته الألبانية للوقيعة بين الطرفين وإيجاد مكان له على مسرح الأحداث كما أظهر محمد علي التودد إلى كبار رجالات المصريين وعلمائهم ومجالستهم والصلاة ورائهم وإظهار العطف والرعاية لمتاعب الشعب المصري وآلامه مما أكسبه أيضًا ود المصريين وفي مارس 1804 تم تعيين والٍ عثماني جديد يدعى أحمد خورشيد باشا الذي استشعر خطورة محمد علي وفرقته الألبانية الذي استطاع أن يستفيد من الأحداث الجارية والصراع العثماني المملوكي فتمكن من إجلاء المماليك إلى خارج القاهرة فطلب من محمد علي بالتوجه إلى الصعيد لقتال المماليك وأرسل إلى الآستانة طالبًا بأن تمده بجيش من الدلاة (1) وما أن وصل هذا الجيش حتى عاث في القاهرة فسادًا مستوليا على الأموال والأمتعة ومعتديا على الأعراض مما أثار تذمر الشعب وطالب زعماؤه الوالي خورشيد باشا بكبح جماح تلك القوات إلا أنه فشل في ذلك مما أشعل ثورة الشعب التي أدت إلى عزل الوالي واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم نقيب الأشراف محمد علي ليجلس محله وفي 9 يوليو 1805 وأمام حكم الأمر الواقع أصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرمانًا سلطانيًا بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر وتولية محمد علي على مصر

التخلص من الزعامة الشعبية

على الرغم من المساعدات التي قدمتها الزعامة الشعبية بقيادة نقيب الأشراف عمر مكرم لمحمد علي بدءً بالمناداة به واليًا ثم التشفع له عند السلطان لإبقائه واليًا على مصر وبالرغم من الوعود والمنهج الذي اتبعه محمد علي في بداية فترة حكمه مع الزعماء الشعبيين بوعده بالحكم بالعدل ورضائه بأن تكون لهم سلطة رقابية عليه إلا أن ذلك لم يدم. بمجرد أن بدء الوضع في الاستقرار النسبي داخليًا بالتخلص من الألفي وفشل حملة فريزر وهزيمة المماليك وإقصائهم إلى جنوب الصعيد حتى وجد محمد علي أنه لن تطلق يده في الحكم، حتى يزيح الزعماء الشعبيين تزامن ذلك مع انقسام علماء الأزهر حول مسألة من يتولى الإشراف على أوقاف الأزهر بين مؤيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي ومؤيدي الشيخ محمد الأمير

وفي شهر يونيو من عام 1809 فرض محمد علي ضرائب جديدة على الشعب فهاج الناس ولجأوا إلى عمر مكرم الذي وقف إلى جوار الشعب وتوعد بتحريك الشعب إلى ثورة عارمة ونقل الوشاة الأمر إلى محمد علي استغل محمد علي محاولة عدد من المشايخ والعلماء للتقرب منه وغيرة بعض الأعيان من منزلة عمر مكرم بين الشعب كالشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الدواخلي فاستمالهم محمد علي بالمال ليوقعا بعمر مكرم وكان محمد علي قد أعد حسابًا ليرسله إلى الدولة العثمانية يشتمل علي أوجه الصرف ويثبت أنه صرف مبالغ معينة جباها من البلاد بناء علي أوامر قديمة وأراد يبرهن علي صدق رسالته فطلب من زعماء المصريين أن يوقعوا علي ذلك الحساب كشهادة منهم على صدق ما جاء به إلا أن عمر مكرم امتنع عن التوقيع وشكك في محتوياته

فأرسل يستدعي عمر مكرم إلى مقابلته فامتنع عمر مكرم قائلاً إن كان ولا بد فاجتمع به في بيت السادات وجد محمد علي في ذلك إهانة له فجمع جمعًا من العلماء والزعماء وأعلن خلع عمر مكرم من نقابة الأشراف وتعيين الشيخ السادات معللاً السبب أنه أدخل في دفتر الأشراف بعض الأقباط واليهود نظير بعض المال وأنه كان متواطئًا مع المماليك حين هاجموا القاهرة يوم وفاء النيل عام 1805 ثم أمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط وبنفي عمر مكرم اختفت الزعامة الشعبية الحقيقية من الساحة السياسية وحل محله مجموعة من المشايخ الذين كان محمد علي قادرًا على السيطرة عليهم إما بالمال أو بالاستقطاعات وهم الذين سماهم الجبرتي مشايخ الوقت

مذبحة القلعة

بالرغم من أن محمد علي استطاع هزيمة المماليك وإبعادهم إلى جنوب الصعيد إلا أنه ظل متوجسًا من خطورتهم لذا لجأ إلى استراتيجية بديلة وهي التظاهر بالمصالحة واستمالتهم بإغداق المال والمناصب والاستقطاعات عليهم حتى يستدرجهم للعودة إلى القاهرة كان ذلك بمثابة الطعم الذي ابتلعه الجانب الأكبر من المماليك الذين استجابوا للدعوة مفضلين حياة الرغد والترف على الحياة القاسية والمطاردة من قبل محمد علي إلا أن بعض زعماء المماليك مثل إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن ورجالهم لم يطمئنوا إلى هذا العرض وفضلوا أن يبقوا في الصعيد

في ديسمبر من عام 1807 تلقّى محمد علي أمرًا سلطانيًا من السلطان العثماني مصطفى الرابع بتجريد حملة لمحاربة الوهابيين الذين سيطروا على الحجاز مما أفقد العثمانيين السيطرة على الحرمين الشريفين وبالتالي هدد السلطة الدينية للعثمانيين إلا أن محمد علي ظل يتحجج بعدم استقرار الأوضاع الداخلية في مصر بسبب حروبه المستمرة مع المماليك لكن بعد تظاهره بالمصالحة مع المماليك لم يبق أمام محمد علي ما يمنعه من تجريد تلك الحملة لذا قرر محمد علي أن يجرّد حملة بقيادة ابنه أحمد طوسون لقتال الوهابيين كان في تجريد تلك الحملة ورحيل جزء كبير من قوات محمد علي خطر كبير على استقرار أوضاعه في مصر فوجود المماليك بالقرب من القاهرة قد يشجعهم على استغلال الفرصة لينقضوا على محمد علي وقواته لذا لجأ محمد علي إلى الحيلة فأعلن محمد على عن احتفال في القلعة بمناسبة إلباس ابنه طوسون خلعة قيادة الحملة على الوهابيين وحدد لهالأول من مارس سنة 1811 وأرسل يدعو الأعيان والعلماء والمماليك لحضور الاحتفال لبى المماليك الدعوة، وما أن انتهى الاحتفال حتى دعاهم محمد علي إلى السير في موكب ابنه تم الترتيب لجعل مكانهم في وسط الركب وما أن وصل المماليك إلى طريق صخري منحدر يؤدي إلى باب العزب المقرر أن تخرج منه الحملة حتى أغلق الباب فتكدست خيولهم بفعل الانحدار ثم فوجئوا بسيل من الرصاص انطلق من الصخور على جانبي الطريق ومن خلفهم يستهدفهم راح ضحية تلك المذبحة المعروفة بمذبحة القلعة كل من حضر من المماليك وعددهم 470 مملوك ولم ينج من المذبحة سوى مملوك واحد يدعى أمين بك (4) الذي استطاع أن يقفز من فوق سور القلعة بعد ذلك أسرع الجنود بمهاجمة بيوت المماليك والإجهاز على من بقي منهم وسلب ونهب بيوتهم بل امتد السلب والنهب إلى البيوت المجاورة ولم تتوقف تلك الأعمال إلا بنزول محمد علي وكبار رجاله وأولاده في اليوم التالي وقد قُدّر عدد من قتلوا في تلك الأحداث نحو 1000 مملوك

تعرض محمد علي للعديد من الانتقادات من المؤرخين الغربيين بسبب غدره بالمماليك في تلك المذبحة  بينما عدها البعض مثل محمد فريد إحدى أفعال محمد علي الحسنة التي خلّص بها مصر من شر المماليك بتخلص محمد علي من معظم المماليك انسحب المماليك الذين بقوا في الصعيد إلى دنقلة وبذلك أصبح لمحمد علي كامل السيطرة على مصر

ضم السودان

كانت الحملة التالية في حملات محمد علي هي الحملة التي جردها لضمّ السودان كانت أهداف محمد علي غير المعلنة من تلك الحملة السعي وراء الذهب والماس الذي تناقل الناس أنه موجود في أصقاع السودان وخاصة سنار ولاتخاذ جنود سودانيين في الجيش النظامي المصري لما عرف عنهم من صبر وشجاعة وطاعة والتخلص من بقية جنود الفرق غير النظامية في الجيش المصري التي كانت تثير القلاقل ومصدر متاعب لمحمد علي أما السبب الظاهري لتلك الحملة فكان القضاء على البقية الباقية من المماليك الذين فروا إلى دنقلة

انطلقت الحملة المؤلفة من 4,000 جندي في مراكب نيلية في 20 يوليو سنة 1820 بقيادة إسماعيل باشا ثالث أبناء محمد علي سارت الحملة جنوبًا فانحدرت من أسوان إلى وادي حلفا إلى دنقلة حيث واجهت المماليك وهزمتهم دون مقاومة تذكر وفي 4 نوفمبر من نفس العام واجهت جمعًا من السودانيين بأسلحة بدائية وهزمهم في كورتي ثم واصل الجيش المصري الزحف فاستولى على بربر في 10 مارس سنة 1821 ثم شندي الذي أعلن ملكها نمر استسلامه أمام الجيش الزاحف ثم استولوا بعد ذلك على أم درمان فاجتازوها وبالقرب منها أسسوا مدينة الخرطوم لتكون قاعدة عسكرية للقوات المصرية

وجه بعد ذلك إسماعيل باشا نسيبه محمد بك الدفتردار في حملة لضم كردفان وفي شهر أبريل من عام 1821 اشتبكت قوات الدفتردار مع قوات محمد الفضل سلطان كردفان في بارا فانتصر الدفتردار ودخل مدينة الأبيض ليضم بذلك كردفان للأراضي الخاضعة للسلطة المصرية سار إسماعيل ببقية جيشه لضم مملكة سنار فاستولى على مدينة ود مدني فقدم ملكها الملك بادي ولائه للجيش المصري فدخل المصريون سنار في 12 يونيو 1821

وفى أثناء وجود الجيش في سنار انتشر المرض بين الجنود فاضطر إسماعيل إلى طلب المدد من أبيه فأمدّه بقوات بقيادة أخيه الأكبر إبراهيم باشا واتفقا على تقسيم العمل بينهما فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه على منطقة النيل الأزرق بينما اتجه إبراهيم لضم بلاد الدنكا واستكشاف أعالي النيل فواصل إسماعيل زحفه في منطقة النيل الأزرق حتى وصل إلى فازوغلي في شهر يناير من عام 1822 أما إبراهيم فأكرهه المرض على العودة إلى مصر

بدأت الثورات تظهر في مختلف المناطق بسبب الازدياد المتواصل في الضرائب التي فرضها المصريون على السودانيين وما أن وصل إسماعيل باشا إلى شندي في ديسمبر من عام 1822 حتى أمر الملك نمر بالمثول أمامه وبدأ في تأنيبه واتهامه بإثارة القلاقل ثم عاقبه بأن أمره أن يدفع غرامة فادحة وألف من العبيد فأظهر الملك نمر الامتثال ولم تمض أيام حتى دعا إسماعيل باشا وكبار رجاله إلى وليمة وبعد أن أثقلهم بالطعام والشراب أمر بإشعال النار في المكان وأمر جنوده برمي كل من يحاول الهرب بالسهام والنبال فمات إسماعيل ورجاله خنقًا وحرقًا فلما بلغ محمد بك الدفتردار الخبر زحف إلى شندي وأسرف في القتل والسبي وتعقّب الملك نمر إلا أنه لم يدركه حيث فر إلى حدود الحبشة بعد ذلك استقرت الأوضاع في السودان ودان لحكم محمد علي

بناء الدولة

اتجه محمد علي إلى بناء دولة عصرية على النسق الأوروبي في مصر واستعان في مشروعاتهالاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين ومنهم بصفة خاصة السان سيمونيون الفرنسيون الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في ثلاثينات القرن التاسع عشر وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث وكانت أهم دعائم دولته العصرية سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة حيث كان يؤمن بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بكل التقنيات العصرية وأن يقيم إدارة فعالة واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي

عسكريًا

أدرك محمد علي أنه لتحقيق أهدافه التوسعية كان لا بد له من تأسيس قوة عسكرية نظامية حديثة تكون بمثابة الأداة التي تحقق له تلك الأهداف. قبل وفي بداية عهد محمد علي، كان الجيش مؤلفًا من فرق غير نظامية تميل بطبيعتها إلى الشغب والفوضى معظمها من الأكراد والألبان والشراكسة إضافة إلى تلك القوات جماعات منالأعراب الذين كان الولاة يلجأون إليهم كمرتزقة وكانت أعمالها لا تتعدى أساليب حرب العصابات والكرّ والفرّ رأى محمد على أن هذا الجيش لا يعتمد عليه فبذل جهده في إنشاء جيش يضارع الجيوش الأجنبية في قتالها وقرر أن يستبدل جنوده غير النظامية بجيش على النظام العسكري الحديث

الجيش

كانت محاولة محمد علي الأولى لتأسيس جيش نظامي عام 1815 عندما عاد من حرب الوهابيين، حيث قرر تدريب عدد من جنود الأرناؤوط الألبان التابعين لفرقة ابنه إسماعيل على النظم العسكرية الحديثة في مكان خصصه لذلك في بولاق لم يرق لهؤلاء الجنود ذلك بسبب طبيعتهم التي تميل إلى الشغب والفوضى فثاروا على محمد علي وهاجموا قصره ودار بينهم وبين الحرس قتال، استطاع خلاله حرس محمد علي السيطرة على الموقف إلا أن محمد علي أيقن أنه لا يمكنه الاعتماد على مثل هؤلاء الجند فأرجأ تنفيذ الفكرة

لجأ محمد علي مجددًا إلى الحيلة ففي عام 1820 أنشأ محمد علي مدرسة حربية في أسوان وألحق بها ألفًا من مماليكه ومماليك كبار أعوانه ليتم تدريبهم على النظم العسكرية الحديثة على يد ضابط فرنسي يدعى جوزيف سيڤ جاء إلى مصر وعرض خدماته على محمد علي وبعد ثلاث سنوات من التدريب نجحت التجربة وتخرجت تلك المجموعة ليكون هؤلاء الضباط النواة التي بدأ بها الجيش النظامي المصري

بعد ذلك، كان أمام محمد علي مشكلة أنه وبالتجربة ثبت أن الجنود الأتراك والأكراد والألبان والشراكسة لم يعودوا يصلحون ليكونوا عماد جيشه لعدم تقبلهم للاندراج في جيش نظامي لذا تحجج بحاجته إليهم في تأمين الثغور وأرسلهم إلى دمياط ورشيد ليخلي القاهرة وليطمئنهم أرسل معهم بعض أبنائه كقادة لهم ثم أرسل إلى ابنه إسماعيل ليمده بعشرين ألفًا من السودانيين ليتم تدريبهم على الجندية في معسكرات أعدها لهم في بني عدي على أيدي الضباط الجدد إلا أن التجربة فشلت لتفشي الأمراض بين الجنود السودانيين لاختلاف المناخ لذا لم يكن أمامه إلا الاعتماد على المصريين قاوم الفلاحون في البداية تجنيدهم لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه واعتبروه عملاً من أعمال السخرة ولكن وبمرور الوقت تجاوب الفلاحون مع الوضع الجديد استشعروا تحت راية الجيش بالكرامة وبحياة مأمونة الملبس والمسكن لا يعانون فيها معاناتهم في الزراعة وبحلول شهر يونيو من عام 1824 أصبح لدى محمد علي ست كتائب من الجند النظاميين يتجاوز عددهم 25 ألف جندي فأمر بانتقالهم إلى القاهرة

بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد باطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي في إحصاء تم عام 1833 وإلى 236 ألف في إحصاء تم عام 1839 كما أنشأ محمد علي ديوانًا عرف بديوان الجهادية لتنظيم شئون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية وتنظيم الرواتب كانت أول مشاركات هذا الجيش في حرب المورة التي أظهرت ما وصلت إليه العسكرية المصرية وهو ما جعل لها شأنًا بين القوى العسكرية المعاصرة وقد اعتمد عليه إبراهيم باشا في حملته على الشام والأناضول

الأسطول

عندما شرع محمد علي في حرب الوهّابيين اقتضت الحاجة إلى بناء سفن لنقل الجنود عبر البحر الأحمر فشرع في إنشائها في ترسانة بولاق ثم نقل القطع على ظهور الجمال إلى السويس ليتم تجميعها هناك وقد اقتصر دور هذا الأسطول في البداية على نقل الإمدادات والتموين طوال سنوات الحملة وبعد أن أسس الجيش النظامي المصري وجد أنه من الضروري تأسيس أسطول حربي قوي يعاونه على بسط نفوذه

اعتمد محمد علي في البداية على شراء السفن من أوروبا كما تعاقد على بناء سفن أخرى في موانئ أوروبا ولكن بعد تدمير هذا الأسطول في معركة ناڤارين أمام أساطيل إنجلترا وفرنسا وروسيا الأكثر تطوّرًا لم ييأس محمد علي وأمر في عام 1829 ببناء ترسانة الإسكندرية التي عهد في إدارتها إلى مهندس فرنسي اسمه سريزي قامت الترسانة بمهمة إعادة بناء الأسطول على الأنماط الأوروبية الحديثة وقد بلغ عدد السفن الحربية التي صنعت في تلك الترسانة حتى عام 1837- 28 سفينة حربية من بينها 10 سفن كبيرة كل منها مسلح بمائة مدفع فاستغنت مصر عن شراء السفن من الخارج ومن شدة اهتمام محمد على بهذه الترسانة كان يزورها باستمرار وكان يستحث العمال على العمل ويحضر حفلات تدشين السفن الجديدة

التعليم العسكري

توسع محمد علي في التعليم العسكري في مصر فبعد أن أمر ببناء مدرسة الضباط في أسوان ومدرسة الجند في بني عدي أمر بتأسيس مدارس أخرى في فرشوط والنخيلة وجرجا كما أسس مدرسة إعدادية حربية بقصر العيني لتجهيز التلاميذ لدخول المدارس الحربية يدرس بها نحو 500 تلميذ لكنها نقلت بعد ذلك إلى أبي زعبل حيث أصبحت تسع نحو 1200 تلميذ

أضاف محمد علي بعد ذلك مدرسة للبيادة في الخانقاه والتي نقلت إلى دمياط عام 1834 ثم إلى أبي زعبل عام 1841 ومدرسة للسواري بالجيزة عام 1831 وأخرى للمدفعية في طره عام 1831 أيضًا كما أسس مدرسة لأركان الحرب في 15 أكتوبر سنة 1825 بالقرب من الخانقاه ومدرسة للموسيقى العسكرية وأنشأ أيضًا معسكر لتدريب جنود الأسطول على الأعمال البحرية في رأس التين ولإعداد الضباط البحريين أسس محمد علي مدرسة بحرية عملية على ظهر إحدى السفن الحربية ولما اتسع نطاقها قسمت إلى فرقتين كل واحدة منها على سفينة

الصناعات العسكرية

رأى محمد علي أنه لكي يضمن الاستقلالية وحتى لا يصبح تحت رحمة الدول الأجنبية عليه إنشاء مصانع للأسلحة في مصر كان مصنع الأسلحة والمدافع في القلعة باكورة هذا التفكير والذي أسسه عام 1827 وكان ينتج بين 600 و650 بندقية وبين 3 و4 مدافع في الشهر الواحد كما كان ينتج سيوف الفرسان ورماحهم وحمائل السيوف واللجم والسروج وفي عام 1831 أسس محمد علي مصنع آخر للبنادق في الحوض المرصود كان ينتج 900 بندقية في الشهر الواحد ثم مصنع ثالث في ضواحي القاهرة وكانت المصانع الثلاثة تصنع في السنة 36,000 بندقية عدا الطبنجات والسيوف

كما أسس معملاً للكهرجالات في جزيرة الروضة بعيدًا عن العمران وأضاف إليه معامل أخرى في الأشمونين وإهناسيا والبدرشين والفيوم والطرانة بلغ مجموع إنتاجها عام 1833 نحو 15,800 قنطار

تعليميًا

أدرك محمد علي أنه لكي تنهض دولته يجب عليه أن يؤسس منظومة تعليمية تكون العماد الذي يعتمد عليه لتوفير الكفاءات البشرية التي تدير هيئات دولته الحديثة وجيشها القوي لذا فقد بدأ محمد علي بإرسال طائفة من الطلبة الأزهريين إلى أوروبا للدراسة في مجالات عدة ليكونوا النواة لبدأ تلك النهضة العلمية كما أسس المدارس الابتدائية والعليا لإعداد أجيال متعاقبة من المتعلمين الذين تعتمد عليهم دولته الحديثة

البعثات العلمية

في عام 1813 ابتعث محمد علي أول البعثات التعليمية إلى أوروبا وكانت وجهتها إلى إيطاليا حيث أوفد عدد من الطلبة إلى ليفورنو وميلانو وفلورنسا وروما لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة ثم أتبعها ببعثات لفرنسا وإنجلترا كانت البعثات الأولى صغيرة حيث كان جملة من بعث خلالها لا يتعدى 28 طالبًا ورغم ذلك فقد لمع منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق بأمر من محمد علي عام 1821

إلا أن العصر الذهبي لتلك البعثات كان مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة تبع تلك الحملة حملة ثانية عام 1828 إلى فرنسا وثالثة عام 1829 إلى فرنسا وإنجلترا والنمسا ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832 وشهد عام 1844 أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا وعرفت باسم بعثة الأنجال لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده كان إجمالي عدد تلك البعثات تسع بعثات ضمت 319 طالبًا وبلغ إجمالي ما أنفق عليهم 303,360 جنيه كما أمر محمد علي بتوجيه ثلاث حملات بقيادة البكباشي سليم القبطان أعوام 1839 1840 و1841 لاستكشاف منابع النيل كان لتلك الحملات الفضل الكبير في استكشاف تلك المناطق ومعرفة أحوالها

المدارس العليا

أنشأ العديد من الكليات وكانت يطلق عليها آنذاك المدارس العليا بدأها عام 1816 بمدرسة للهندسة بالقلعة لتخريج مهندسين يتعهدون بأعمال العمران وفي عام 1827 أنشأ مدرسة الطب في أبي زعبل بنصيحة من كلوت بك للوفاء باحتياجات الجيش من الأطباء ومع الوقت خدم هؤلاء الأطباء عامة الشعب ثم ألحق بها مدرسة للصيدلة وأخرى للقابلات (الولادة) عام 1829 ثم أنشأت مدرسة المهندسخانة في بولاق للهندسة العسكرية ومدرسة المعادن في مصر القديمة عام 1834 ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836 ومدرسة الزراعة بنبروه عام ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب عام 1837 ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع عام 1839 وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا نحو 4,500 طالب

المدارس الابتدائية

لما تقدمت المدارس العليا واتسع نطاقها قرر محمد علي إنشاء ديوان المدارس عام 1837 وعهد بإدارته إلى بعض أعضاء البعثات العائدين لمصر لتنظيم التعليم بالمدارس قرر هذا الديوان توسيع قاعدة التعليم في مصر فوضع لائحة لنشر التعليم الابتدائي نصت على ضرورة إنشاء 50 مدرسة ابتدائية وهو ما وافق عليه محمد علي وأمر بإنشائها على أن يكون 4 منها بالقاهرة وواحدة بالإسكندرية تضم كل منها 200 تلميذ والباقي توزع على مختلف الأقاليم وتضم كل منها 100 تلميذ

اقتصاديًا

لكي يحقق محمد علي الاستقلال السياسي كان في حاجة إلى إنماء ثروة البلاد وتقوية مركزها المالي لذا عمد إلى تنشيط النواحي الاقتصادية لمصر واستخدم لتحقيق ذلك عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين عملوا في تلك المجالات بالسخرة

الصناعة

بني محمد علي قاعدة صناعية لمصر وكانت دوافعه للقيام بذلك في المقام الأول توفير احتياجات الجيش فأنشأ مصانع للغزل والنسيج ومصنعا للجوخ في بولاق ومصنعا للحبالاللازمة للسفن الحربية والتجارية ومصنعا للأقمشة الحريرية وآخر للصوف ومصنعا لنسيج الكتان ومصنع الطرابيش بفوه ومعمل سبك الحديد ببولاق ومصنع ألواح النحاس التي كانت تبطن بها السفن ومعامل لإنتاج السكر ومصانع النيلة والصابون ودباغة الجلود برشيد ومصنعا للزجاج والصيني ومصنعا للشمع ومعاصر للزيوت كما كان لإنشاء الترسانة البحرية دورًا كبيرًا في صناعة السفن التجارية

الزراعة

اهتم محمد علي بالزراعة، فاعتنى بالريّ وشق العديد من الترع وشيّد الجسور والقناطر كما وسّع نطاق الزراعة فخصص نحو 3,000 فدان لزراعة التوت للاستفادة منه في إنتاج الحرير الطبيعي والزيتون لإنتاج الزيوت، كما غرس الأشجار لتلبية احتياجات بناء السفن وأعمال العمران وفي عام 1821 أدخل زراعة صنف جديد من القطن يصلح لصناعة الملابس بعد أن كان الصنف الشائع لا يصلح إلا للاستخدام في التنجيد

التجارة

بعد أن ازدادت حاصلات مصر الزراعية وخاصة القطن اتسع نطاق تجارة مصر الخارجية كما لعب إنشاء الأسطول التجاري وإصلاح ميناء الإسكندرية وتعبيد طريق السويس القاهرة وتأمينه لتسيير القوافل دورًا في إعادة حركة التجارة بين الهند وأوروبا عن طريق مصر فنشطت حركة التجارة الخارجية نشاطًا عظيمًا حتى بلغت قيمة الصادرات 2,196,000 جنيه والواردات 2,679,000 جنيه عام 1836

إداريًا

نظام الحكم

حكم محمد علي مصر حكمًا أوتوقراطيًا مع ميل لاستشارة بعض المقربين قبل إبرام الأمور إلا أنه اختلف عن الحكم الاستبدادي للمماليك في أنه كان يخضع لنظام إداري بدلاً من الفوضى التي سادت عصر المماليك فقد أسس محمد علي مجلسًا حكوميًا عرف باسم الديوان العالي مقره القلعة يترأسه نائب الوالي محمد عليى ويخضع لسلطة هذا الديوان دواوين تختص بشئون الحربية والبحرية والتجارة والشئون الخارجية والمدارس والأبنية والأشغال كما أسس مجلسًا للمشورة يضم كبار رجال الدولة وعدد من الأعيان والعلماء ينعقد كل عام ويختص بمناقشة مسائل الإدارة والتعليم والأشغال العمومية وفي عام 1837 وضع محمد علي قانونًا أساسيًا عرف بقانون السياستنامة يحدد فيه سلطات كل ديوان من الدواوين الحكومية

التقسيم الإداري

قسّم محمد علي مصر إلى سبع مديريات أربعة في الوجه البحري وهي الأولى ضمت البحيرة والقليوبية والجيزة والثانية المنوفيةوالغربية والثالثة الدقهلية والرابعة الشرقية وواحدة في مصر الوسطى وشملت بني سويف والفيوم والمنيا واثنتان في مصر العليا الأولى من جنوب المنيا إلى شمال قنا والثانية من قنا إلى وادي حلفا إضافة إلى خمس محافظات وهي القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس

النظام المالي

 نظام الالتزام الذي كان يسمح لبعض الأفراد الذين يسمون بالملتزمين بدفع حصص الضرائب على بعض القرى ويخوّل لهم جمعها بمعرفتهم مما كان يرهق المزارعين لأنهم عادةً ما كانوا يجبوا تلك الأموال بقيمة أكثر مما دفعوه إلا أنه استبدل هذا النظام بنظام الاحتكار الذي جعل من محمد علي المالك الوحيد لأراضي القطر المصري وبذلك ألغى الملكية الفردية للأراضي كما أجهد محمد علي الشعب بالضرائب التي كان يفرضها على الشعب كلما احتاج لتمويل أحد حملاته أو مشاريعه دون نظام محدد شملت تلك الضرائب الضرائب المفروضة على الأراضي والمزروعات والأفراد والماشية وكما احتكر محمد علي الأراضي والزراعة احتكر أيضًا الصناعة والتجارة مما جعل منه المالك الوحيد لأراضي مصر والتاجر الوحيد لمنتجاتها والصانع الوحيد لمصنوعاتها

عمرانيًا

اهتم محمد علي ببعض النواحي العمرانية التي تخدم دولته الناشئة فأسس المدن مثل الخرطوم وكسلا وأقام القلاع للدفاع عن الثغور وعاصمة البلاد كما شيّد فنارا لإرشاد السفن في رأس التين بالإسكندرية وعني أيضًا ببناء القصور ودور الحكومة وأنشأ دفترخانة لحفظ الوثائق الحكومية ودار للآثار بعدما أصدر أمرًا بمنع خروج الآثار من مصر وعبّد الطرق التجارية ونظّم حركة البريد وجعل له محطات لإراحة الجياد

اجتماعيًا

تدرّج المجتمع في عهد محمد علي إلى عدة طبقات اجتماعية أعلاها الطبقة الحاكمة التي ضمت أسرة محمد علي وكبار رجاله وموظفي الدولة من المتعلمين في المدارس والمبتعثين للخارج ثم طبقة العلماء والأعيان فالمزارعين وعمال المصانع والعربان والرقيق من اليونانيين الذين أسروا في حرب المورة والجواري الشركسيات والحبشيات والسودانيات اللاتي كن يخدمن في بيوت الأثرياء وقد ارتفع تعداد السكان في عهد محمد علي من 2,514,400 نسمة عام 1823 إلى 4,476,440 نسمة عام 1845 وكان محمد علي باشا متسامحًا واسع الأفق في الشؤون الدينية(11) فقرَّب إليه المسيحيين كما المسلمين واستعان بهم في حكمه وأدخلهم في حاشيته

نهاية محمد علي باشا

سنواته الأخيرة

بعد انسحاب الجنود المصرية من بلاد الشام وفصل الأخيرة عن مصر وعودتها لربوع الدولة العثمانية بدعم دولي كبير وبعدما تبيّن أن فرنسا ليست مستعدة لخوض حرب في سبيل مصر أو واليها أصيب محمد علي باشا بحالة من جنون الارتياب وأخذ يُصبح مشوش التفكير شيئًا فشيئًا ويُعاني من صعوبة في التذكّر ومن غير المؤكد إن كان هذا نتيجة جهده الذهني خلال حرب الشام أو حالة طبيعية نتيجة تقدمه بالسن أو كان تأثير نترات الفضة التي نصحه أطباؤه بتعاطيها منذ زمن لعلاج نفسه من مرض الزحار

ما زاد حالة محمد علي باشا سوءًا كانت المصائب التي حلّت بمصر وعليه شخصيًا في أواخر عمره ففي سنة 1844 تبيّن لرئيس الديوان المالي شريف باشا أن ديون الدولة المصرية قد بلغت 80 مليون فرنك وأن المتأخرات الضريبية قد بلغت 14,081,500 قرشًا من الضريبة الإجمالية المقدرة بحوالي 75,227,500 قرش وتخوّف الباشا من عرض الموضوع على محمد علي لما قد يكون له من وقع شديد عليه فعرض المسألة على إبراهيم باشا الذي اقترح أن تقوم أحب شقيقاته إلى والده بنقل الخبر إلا أن ذلك لم يكن له الأثر المرجو فقد فاق غضب محمد علي ما توقعه الجميع ولم يهدأ باله ويستكين خاطره إلا بعد مرور ستة أيام

بعد عام من هذه الحادثة أصيب إبراهيم باشا بالسل واشتد عليه داء المفاصل وأخذ يبصق دمًا عند السعال فزاد ذلك من هموم محمد علي وحزنه فأرسل ولده إلى إيطاليا للعلاج على الرغم من أنه أدرك في قرارة نفسه أن ولده في عداد الأموات ويتضح ذلك جليًا مما قاله للسلطان عندما زار الآستانة في سنة 1846 حيث عبّر عن خوفه من ضياع إنجازاته بسبب عدم كفاءة أحفاده لتحمّل مسؤولية البلاد والعباد فقال ولدي عجوزٌ عليل وعبّاس متراخ كسول، من عساه يحكم مصر الآن سوى الأولاد وكيف لهؤلاء أن يحفظوها بعد ذلك عاد محمد علي إلى مصر وبقي واليًا عليها حتى اشتدت عليه الشيخوخة وبحلول عام 1848 كان قد أصيب بالخرف وأصبح توليه عرش الدولة أمرًا مستحيلاً فعزله أبناؤه وتولّى إبراهيم باشا إدارة الدولة

وفاته

حكم إبراهيم باشا مصر طيلة 6 أشهر فقط قبل أن يتمكن منه المرض وتوافيه المنيّة في 10 نوفمبر تشرين الثاني سنة 1848 فخلفه ابن أخيه طوسون عبّاس حلمي وبحلول هذا الوقت كان محمد علي باشا يُعاني من المرض أيضًا وكان قد بلغ من الخرف حدًا لا يمكنه أن يستوعب خبر وفاة ابنه إبراهيم فلم يُبلّغ بذلك عاش محمد علي بضعة شهور بعد وفاة ولده وتوفي في قصر رأس التين بالإسكندرية بتاريخ 2 أغسطس سنة1849م الموافق فيه 13 رمضان سنة 1265هـ فنُقل جثمانه إلىالقاهرة حيث دُفن في الجامع الذي كان قد بناه قبل زمن في قلعة المدينة كانت جنازة محمد علي باشا معتدلة الحضور والمراسم ويرجع ذلك بشكل كبير إلى الوالي عبّاس حلمي الذي طالما اختلف في الآراء والمشارب مع جدّه وعمّه إبراهيم وكان يحمل له شيئًا من الضغينة يقول القنصل البريطاني جون موراي وهو من الأشخاص الذين شاركوا في تشييع محمد علي إلى مثواه الأخير

 كان الحضور في الجنازة حضورًا هزيلاً غثًا كثير من القناصل والسفراء لم يُدعوا للمشاركة ولم تُغلق الحوانيت ولا الدوائر الحكومية باختصار يسود انطباع عام مفاده أن عبّاس باشا هو الجدير باللوم فقد قلل من شأن جدّه وذكراه اللامعة ولم يحترم ذكراه حق الاحترام وكيف لا يكون ذلك وقد سمح أن يُقام مأتم هذا الرجل على هذا الشكل البائس وأهمل العناية به أشد الإهمال
إن تعلّق وتبجيل جميع طبقات المجتمع المصري لاسم محمد علي لهو مأتم أعظم شأنًا وأكثر شرفًا من أي جنازة أخرى يُقدمها له خلفاؤه يتحدث الأهالي الكبار ممن يتذكر عن الفوضى والظلم الذي غرقت به البلاد قبل وصوله

ويُقارن الشباب حكمه بحكم خلفه المتقلّب والمتذبذب كل طبقات الشعب من ترك وعرب لا تتردد في قول أن مصر المزدهرة المتحضرة ماتت مع محمد علي في واقع الأمر يا سيدي لا يمكننا ولا يمكن لأحد أن ينكر أن محمد علي على الرغم من كل أخطائه كان رجلاً عظيم الشأن

إرثه

إن أكثر النظريات السائدة عند المؤرخين وفي الأوساط العامّة هي تلك التي تقول أن محمد علي باشا هو "والد مصر الحديثة" كونه كان الحاكم الأول عليها والذي استطاع تجريد الباب العالي من سلطته الفعليّة على البلاد منذ الفتح العثماني لمصر عام 1517 وعلى الرغم من أنه فشل في تحقيق الانفصال التام لمصر عن الدولة العثمانية إلا أنه وضع أسس الدولة المصرية الحديثة التي تبلورت بعد وفاته فمن خلال بناءه لجيش كبير وقوي يُدافع عن بلاده ويوسع رقعتها أنشأ بيروقراطية مركزية ونظامًا تعليميًا سمح بحصول حراك اجتماعي في المجتمع المصري وقاعدة اقتصادية واسعة تستند إلى الزراعة والصناعات العسكرية وقد كان من شأن جهوده وأعماله هذه أن توطّد حكم ذريته لمصر والسودان طيلة 150 عامًا تقريبًا كانت مصر فيها دولة تتمتع باستقلال ذاتي قانوني في ظل الدولة العثمانية ومن ثم في ظل الحماية البريطانية

يرى قسم آخر من الناس أن محمد علي باشا لم يكن باني مصر الحديثة وإنما هو أجنبي غازٍ مثله في ذلك مثل أي محتل آخر لأرض مصر بدءًا من الفرس في عام 525 ق.م وحجج أصحاب هذا الرأي تتمثل بعدّة نقاط، منها أن محمد علي لم يتكلم العربية أو يجعلها اللغة الرسمية في بلاطه وإنما استعاض عنها بالتركية كما أنه استغل ثروات مصر ومواردها البشرية لتحقيق مآربه الخاصة وليس لتحقيق مصلحة البلاد وأهلها وإنه أرهق المصريين بالضرائب وأعمال السخرة والتجنيد الإجباري ومن أبرز المواضيع التي تجعل البعض يتحفّظ على عهد محمد علي باشا قصة عزمه على هدم الهرم الأكبر واستخدام أحجاره الضخمة لبناء قناطر جديدة عند رأس دلتا النيل في منطقة شلقان التي أصبحت فيما بعد القناطر الخيرية والتي تراجع عنها بعد أن أقنعه المهندس الفرنسي لينان دو بلفون بعدم جدواها على العموم تعتبر النظرة سالفة الذكر النظرة الأقل قبولاً عند المؤرخين وبالذات العرب منهم