«التائية الكبرى» علم على قصيدة شهيرة ألّفها الشاعر الصوفي ابن الفارض، نظمها في التصوف، جامعاً فيها كل معاني الحب الصوفي، بأسلوب سلس وعبارة قوية، وقد أودعها من حسن الوصف وبراعة الصنعة ما جعلها من أجمل قصائد التصوّف على مر العصور، وربما لسببها لقب ب«سلطان العاشقين» لأنه جاء فيها بكل معاني العشق ورموزه الصوفية، فهي من هذه الناحية ديوان للحب الإلهي، ومعجم لألفاظه الشعرية.
وابن الفارض هو أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، أصله من حماة في سوريا، وهاجر وهاجر أبوه إلى مصر التي ولد بها ابن الفارض سنة 576 ه ، ولما شب اشتغل بدراسة الفقه، وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثم سلك طريق الصوفية ومال إلى الزهد، ثم حج وأقام بالحجاز خمسة عشر عاماً معتزلاً الناس منصرفاً إلى العبادة، ثم عاد إلى مصر، وبقي بها حتى توفي 632ه، وكان والد ابن الفارض من أكابر العلماء زاهداً ورعاً، وكان يلزم ولده في صغره بالجلوس معه في مجالس العلم، ما أثّر في الابن مبكراً فنشأ على حب العلم، والزهد في الدنيا مما جعل طريقه إلى أهل الصوفية سالكاً.

في عزلته في الحجاز نظم ابن الفارض معظم شعره الصوفي، وقد عاش الشاعر في عصر انتشر فيه واتسعت مذاهبه، وتعاطاه الخاصة والعامة، فقد كانت حال المجتمعات الإسلامية تغذي تلك النزعة، مع تطور المجتمعات الإسلامية، وتشعبها وظهور الجور والظلم، وطغيان الملوك، وانتشار الفقر في طبقات المجتمع، وفساد المجتمع بما تفشى فيه من أمراض القلوب، من حب للمال وأنانية وحسد وحقد، وغيرها من أمراض لم تكن بهذا الانتشار في القرون الماضية، كانت ردّة فعل الكثيرين الاتجاه إلى الزهد في الدنيا، وترك الانشغال بالناس، منصرفين إلى الانشغال بذكر الله وعبادته، والفناء في حبه، وكان ابن الفارض على صلة بملوك الأيوبيين الذين عاش في زمنهم، وكانوا يحترمونه ويحضرون مجلسه.

سمّى ابن الفارض قصيدته «نظم السلوك» والسلوك عند المتصوفة هو كل ما يقوم به المتصوّف في طريقه نحو ربه، مما يقرّبه من الوصول إلى غايته، لكنّ ابن الفارض لم يهتم ببيان الطريقة بقدر ما بيّن حاله هو، وسلوكه هو وما يعتري ذلك السلوك من أحوال وهيئات، وما يعرض له من إشارات ورموز تشكل علامات على طريقه، وما يجده من معاناة الحب، وفي هذه القصيدة يستخدم الشاعر قاموسين شعريين استخداماً مركباً للدلالة على بعد معاناته، وتمكن حب الله من قلبه، فحمّى الحب وحرارته التي أصابته من التفكير في المحبوب أحالت حالته إلى «سكرة»، ولا شك أن هذا الاستخدام هنا مجازي، فهو يقصد حب الواحد الأحد، حيث يصبح في حالة لا تجد تعبيراً عنها أبلغ من «السكرة»، وهي على كل حال سكرة مباحة لأنها في ذات الله، ومن أجل الله.
للتعبير عن تلك الحالة من «الانخطاف» أو الذهول الحبي يستهل ابن الفارض قصيدته بعبارة «سقتني حميا الحب»، لكنّ الشاعر يربطهما بعبارة «الحب» كي لا يتطرق ذهن السامع إلى شيء آخر غير الحب، ولكي نعرف لا حقاً سبب «السكرة»، لكن، ما الكأس التي شرب منها هذا الحب؟ يجيب ابن الفارض «محيا من عن الحسن جلت»، لقد أصابه الحب من النظر إلى ذلك الوجه «المحيا» الذي يجل عن الحسن، وكما خرج الشاعر من توهم السامع أن «السكرة» حقيقية يخرج هنا من توهم أن «الحب» بشري بعبارة «مَنْ عن الحسن جلت»، لأن المحبوب البشري لا يجل عن الحسن، بل يجل بالحسن، أما الحق سبحانه فهو المتصف بالكامل المتعالي في ذاته وصفاته عن أن يشابه مخلوقاته.